واحات زيز وغريس: المجال والإنسان والمجتمع

(2021)
  Copy   BIBTEX

Abstract

تقديم: إن الإنسان على مر تاريخه بنى حضاراته على نقاط الماء، ذلك أن المياه كانت شرطا أساسيًا لنشأة المدن بحسب بلينيوس الشيخ (Caius Plinius Secundus) ؛ أي أن الأنوية السكنية الأولى تؤسَس غالبًا في مجال مرتفع شيئا ما عن المجرى المائي لا في جواره المباشر، تجنبا لخطر الفيضانات. ثم ما لبث الإنسان شيئا فشيئا، يبني بيوته تدريجيًا في القطاعات المعرضة لخطر الفيضانات الموسمية . بناء على ذلك، يمكن القول بأن مناطق الحياة ونواة العمران، بالواحات الصحراوية لم تخرج عن هذه القاعدة، حيث استقر إنسان الصحراء عند منابع المياه والوديان، واعتبرها محطات مهمة في حله وترحاله، فكانت همزة وصل بين المناطق، ومحطات ربط وعبور بينها، كما هو الحال مع واحات زيز وغريس وكير ودرعة وتوات...إلخ. وعلى الرغم من أن الماء كان عنصرًا أساسيا في استقرار إنسان هذه المجالات، إلا أن هذا لا ينفي تظافر عاملين آخرين كان وراء استقرار سكان الصحراء وهما: توفر الأراضي الخصبة -رغم محدوديتها- من جهة، وتدافع القبائل (الحرب) من جهة أخرى. وليس بخفيّ أن هذين العاملين إلى جانب الماء كانا وراء عملية الاستقرار البشري بالواحات داخل القصور وعلى مشارف الوديان، ومن ثم الارتباط بالأرض وممارسة الزراعة وبداية الحضارة الصحراوية القائمة -في نظرنا- على ثقافة الخوف وتدبير الندرة وقيم التضامن، التي تظهر جميعها في المعمار والأعراف والعادات الثقافية المختلفة، في الوقت الذي ارتبطت مجموعات قبلية على مرّ تاريخها بالترحال والانتجاع وتربية الإبل والأغنام في الفيافي والصحاري بحثا عن المراعي والكلأ. وهكذا انقسمت حياة أهل الصحراء إلى نمطين من العيش: نمط عيش واحي، ونمط عيش ترحالي، إلى جانب أنصاف البدو الذين يزاوجون بين النمطين . لقد كان هذا الوضع مستمرًا بهذا الشكل إلى حدود بداية القرن العشرين في جل المناطق الصحراوية وما قبل الصحراوية. ورغم دوامها نسبيا إلى حدود اليوم، إلا أنها عرفت الكثير من التحولات الجدرية أحيانًا، بسبب التغيرات والتحولات التي همّت شتى الجوانب المجالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لهذه المناطق، فقد ساهمت عوامل عديدة في انخفاض نسبة البدو وتغير نمط العيش في الواحات، إذ رغم استمرار بعض القبائل في حياة البداوة واستقرار الكثير داخل الواحات في الجنوب والجنوب الشرقي المغربيين، إلا أن نمط الحياة وأساليب العيش شهدت تبدلا ملحوظا أثر بشكل كبير على عمق الإنسان الصحراوي وبنياته وعلاقاته المختلفة. ولعل من بين أهم الأسباب التي سرعت من وثيرة المرور من نسق البداوة وحياة النجعة، إلى نمط العيش القائم على الاستقرار بالواحات، ومن التجمعات البشرية داخل القصور إلى حياة الحضر الحديثة، نجد تداعيات السياسة الكولونيالية التي حاولت القضاء على النمط التقليدي في الترحال والتنقل، بحيث أنشأت «مراكز عسكرية» لمراقبة تحركات القبائل البدوية وضبط سكان الواحات، هذه المراكز التي أطلق عليها اسم «الفيلاجات (les villages)، والتي ستشكل مع النصف الثاني من القرن العشرين، نواة نشأة "المدن" بالمناطق الصحراوية وما قبل الصحراوية. وبفعل ما عرفته هذه المراكز من تطور في البنى التحتية وتمركز الخدمات الإدارية فيها، فقد صارت تستقطب سكان القصور والبدو الرحل. ويمكننا اليوم الحديث عن عاملين نفترض أنهما سرعا معًا في وثيرة الانتقال من حياة البدو والواحة إلى الانتقال من أجل العيش في الوسط الحضري وهما: التزايد الديمغرافي بارتفاع نسبة السكان داخل القصور الطينية، ومن ثم ارتفاع الطلب على السكن، مع عدم إمكانية تحقيق الاكتفاء الذاتي من منتجات حياة الزراعة المعاشية والترحال، أما العامل الثاني فيرتبط بتداعيات الحياة العصرية، وما تدعمه من أفكار، وما تمليه من متطلبات ثقافية واقتصادية متنوعة تجعل الإنسان مقبلا على المدينة. فالأوساط الحضرية بهذه المجالات تؤكد اتجاه الواحات نحو التمدن، بحيث صارت تمتاز بجاذبة متزايدة لسكان القصور الواحية التي عرفت ما يسميه جل الباحثين بـ«انفجار القصور» من جهة ، والبدو الرحل في المناطق المتاخمة للصحراء من جهة أخرى الذين عرفوا التحول من بيوت الخيام نحو الدور الطينية فدور الإسمنت . لينتقل بذلك إنسان المجالات الصحراوية بشكل عام في تاريخه من العيش داخل الخيام إلى الاحتماء داخل القصر، ثم ولوج عالم الأحياء الحضرية؛ أي أنه انتقل من حياة الوبر، إلى الحياة الطينية، ومنها إلى حياة الإسمنت...إلخ، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاسات مختلفة على الموارد المحلية كالمساحات الزراعية التقليدية، والمياه، والتوازن البيئي. ويقدم أحمد أبو زيد صورة مختصرة عن تاريخ الصحراء، في طرافة إهداءين لمستكشفين خبروا الصحراء عن قرب، وهما تيودور مونو(Theodore Monod) وجان لارتوجي (JEAN LARTUGY)، فحين كتب تيودور مونو المكتشف الشهير الذي جاب الصحراء الأطلنتية كتابه عن "الهجانة" « Méharées » أهداه إلى "الجمل والماعز، الدابة والوعاء"، الحيوانان الوحيدان اللذان أمكن لهما تدليل الصحراء، وكان ذلك في عام 1937، وبعد ذلك بعشرين سنة أي سنة 1957 أصدر جان لارتجي كتابه "الصحراء في سنة واحدة" فأهداهُ إلى "سيارة الجيب وطائرة الدراكونا اللتين أيقظتا الصحراء من نومها الطويل وغيرتا كل أسلوب حياتها"، وهذان الإهدءان يلخصان كل قصة الصحراء ويقدمان صورة واضحة لها عن حياتها في الماضي والحاضر كما يعطيان فكرة (طيّبة) عن واقع الصحراء والتغيرات الهائلة التي حدثت فيها . إن المجال الصحراوي إذن، والذي كان يوحي في الماضي القريب إلى الخلاء والامتداد في الفراغ، أو ذلك الفضاء القاحل الذي تتخلله نقط واحية خضراء، بمحاذاة القصور الطينية التاريخية، لم يعد اليوم كذلك، بفعل المدن والمراكز الحضرية، والعمران المتكاثف والمتسارع خارج الأنماط السكنية التقليدية، والمجتمع المتحول والمتغير، بعلاقاته وصراعاته وقيّمه، واستراتيجياته في إنتاج المجال الحضري الجديد. وإذا كانت بلاد الصحراء والواحات، مغريًة وجذابًة قديمًا للرحالة والمستكشفين والباحثين زمن ازدهار وساطتها التجارية بين فاس وتنبكتو وبلاد السودان بوجه عام، فإن الإقبال على الواحات والمراكز الحضرية الناشئة فيها بحثًا ودراسةً، بدأ اليوم يعرف اهتماما ملحوظا من طرف الباحثين، نظرا لما تواجهه من مشاكل وتحديات طبيعية وبشرية كالجفاف، والهجرة والتحضر، ونظرا أيضًا، لما تتمّيز به من عناصر تاريخية ومقومات ثقافية وخبرة طويلة في تدبير المعاش والمجال، مكنت إنسانها من مواجهة تحدياتها المختلفة. في هذا السياق، يأتي هذا العمل الجماعي من أجل التفكير في مجتمع الواحة، وثقافة أهل الواحة، والإكراهات المختلفة التي تواجهها المجالات الواحية، وكذا مداخل المحافظة على كل ذلك المشهد الطبيعي والثقافي، والرصيد الإنساني المشترك، بتثمينه وتطويره في سبيل استدامته وتنميته. بقي أن نشير في الأخير، إلى أن اهتمامنا بمعية الباحث الصديق الصادقي العماري، في هذا العمل بواحات زيز وغريس بعد عملنا السابق ، استدعاه سببين أساسيين: يتمثل الأول في رغبتنا في تسليط الضوء على أكبر واحتين متجاورتين ومتشابهتين ثقافيا وقبليا بالجنوب الشرقي المغربي، ثم لكون الكثير من التحديات التي تواجهها هاته الواحات تمثل بشكل أو بآخر، صورة ميكروسكوبية لغيرها من الواحات المغربية. وإذ نقدم هذا العمل لعموم الباحثين والمهتمين، فإنه يسعدنا أن نتوجه بالشكر الجزيل لكل المشاركين فيه، وكل أعضاء اللجنة العلمية الذين عملوا على قراءة المقالات ومراجعتها. وتجب الإشارة هنا، إلى أن ترتيب مواضيع هذا العمل ليست له أيّ علاقة بمكانة الباحث، بل يتعلق الأمر بالتوزيع الموضوعاتي للأعمال بما يتماشى وتنظيم أقسامه وفصوله.

Author's Profile

Dr.Sadiki Amari Seddik
Université Sidi Mohamed Ben Abdellah Fes-maroc (Alumnus)

Analytics

Added to PP
2024-01-10

Downloads
687 (#31,700)

6 months
121 (#39,582)

Historical graph of downloads since first upload
This graph includes both downloads from PhilArchive and clicks on external links on PhilPapers.
How can I increase my downloads?